مع عودة الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية ضد مُنافسته الديمقراطية كامالا هاريس، تُطرح تساؤلات حول المسار الذي سيسلكه الاقتصاد الأميركي تحت قيادة الرجل الذي يشتهر بمواقفه الحادة إزاء السياسات التجارية، وتفضيله لخفض الضرائب وتخفيف القيود التنظيمية.
الاقتصاد الأميركي، الذي تعرض خلال عهد الرئيس جو بايدن لضغوط التضخم وارتفاع الفائدة وتحديات النمو، يواجه اليوم تغيرات غير مسبوقة مع عودة ترامب، الذي يضع أجندة اقتصادية تعتمد على شعار "أميركا أولاً" واستعادة الصناعة الوطنية إلى صدارة الأولويات.
أحد أهم نقاط الجذب التي وُعد بها الناخبون كانت تعهدات ترامب بتجديد الجهود لتقليل الاعتماد على السلع الأجنبية وإعادة الصناعات إلى الولايات المتحدة.
ومع عودته، يُنتظر أن يدفع نحو سياسات حمائية صارمة تهدف إلى تحفيز الإنتاج المحلي وتقليص العجز التجاري، بما يشمل فرض تعرفات بنسبة من 10 إلى 20% على بعض الواردات و60% على الواردات الصينية. هذه السياسات قد تؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات التجارية مع الصين والاتحاد الأوروبي، بل وربما إلى نزاعات تجارية تؤثر على تدفق السلع والأسعار، مما سيشكل تحدياً للقطاعات المتأثرة وللشركات متعددة الجنسيات.
إلى جانب التجارة، فإن ترامب متمسك بسياسات مالية تتمحور حول خفض الضرائب على الشركات والأثرياء، على أمل تحفيز النمو الاستثماري وخلق وظائف جديدة. إلا أن هذه السياسات تثير مخاوف بعض الاقتصاديين من زيادة عجز الموازنة العامة وتفاقم الديون، وهو ما قد يؤدي إلى ضغوط على الاقتصاد على المدى البعيد، خاصةً في حال تباطؤ نمو الإيرادات الضريبية وارتفاع النفقات الحكومية.
أما في ملف الطاقة، فعودة ترامب قد تشكل تحولاً كبيراً في الاستراتيجيات البيئية، إذ من المتوقع أن يعيد دعم الصناعات النفطية والغازية، ويقلل القيود البيئية المفروضة على تلك القطاعات.
ومن شأن هذا التوجه يهدف إلى تحقيق استقلالية أكبر في مجال الطاقة، لكنه يأتي على حساب التزامات أميركا تجاه قضايا المناخ، مما قد يؤجج الانتقادات الدولية ويؤثر على التوازن بين الاقتصاد والاستدامة البيئية.
وقد كان إحباط الناخبين من حياتهم الاقتصادية سبباً رئيسياً في دفع دونالد ترامب إلى الفوز بولاية ثانية. والآن، سوف يقع على عاتق الرئيس المنتخب مهمة محاولة تغيير هذا المسار والوفاء بوعوده الشاملة بإنعاش الاقتصاد.
اقتصاد قوي
وسوف يرث ترامب اقتصاداً قائماً بالفعل على أسس متينة نسبياً، بحسب تقرير لـ "إن بي سي نيوز" أشار إلى تباطؤ التضخم، كما بدأت الأجور في اللحاق بالأسعار المرتفعة. وفي حين لا توظف الشركات بنفس الوتيرة المحمومة التي كانت عليها بعد الجائحة، فإن سوق العمل تظل قوية وفقا للمعايير التاريخية، مع انخفاض معدلات البطالة ووجود وظيفة شاغرة لكل شخص يبحث عن عمل.
ولكن بحسب التقرير، فعلى الرغم من علامات القوة في الاقتصاد، فإن تكاليف المعيشة وعدم الرضا العام عن الاقتصاد كانا محل استشهاد متكرر باعتبارهما مصدر قلق كبير من قبل الناخبين قبل الانتخابات. وكانت تكاليف الإسكان تشكل نقطة ضغط رئيسية على ميزانيات الأسر بعد أن ارتفعت الإيجارات بمعدل 24٪ في المتوسط على مدى السنوات الأربع الماضية>
ومع ارتفاع أسعار الرهن العقاري إلى أكثر من 6٪، أصبح شراء منزل بعيدًا عن متناول العديد من الأسر. وكان الطعام من بين النفقات المتزايدة الأخرى، حيث ارتفع متوسط تكلفة البقالة بنسبة 22٪ على مدى السنوات الأربع الماضية، وشهدت بنوك الطعام أعدادًا قياسية من الأشخاص الذين يطلبون المساعدة.
طرح ترامب مجموعة واسعة من المقترحات التي يقول إن من شأنها تحسين الصورة المالية لأميركا، وكثير منها يتطلب اتخاذ إجراءات من جانب الكونغرس، حيث سيسيطر الجمهوريون على مجلس الشيوخ ويأملون في السيطرة على مجلس النواب.
من بين خطط ترامب الاقتصادية ترحيل ملايين المهاجرين، وفرض تعريفات جمركية شاملة على جميع السلع القادمة إلى الولايات المتحدة، وتشجيع المزيد من إنتاج النفط، وخفض الضرائب على الشركات، وإلغاء الضرائب على دخل الضمان الاجتماعي والإكراميات.
ويستعرض التقرير بعض الطرق التي يمكن أن تؤثر بها بعض هذه المقترحات على الاقتصاد:
التعرفات الجمركية
ورغم أن التضخم كان قضية رئيسية بالنسبة للناخبين، فإن أحد وعود حملة ترامب الرئيسية ــ فرض رسوم جمركية على جميع السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة ــ من المرجح أن يؤدي إلى رفع الأسعار وخسارة العمال لوظائفهم، وفقا لخبراء اقتصاد ومجموعات أعمال وحتى بعض حلفاء ترامب. وقد رفض ترامب هذه التأكيدات.
وقال ترامب خلال كلمته في نادي شيكاغو الاقتصادي: "بالنسبة لي، فإن أجمل كلمة في القاموس هي "التعرفة الجمركية". إنها كلمتي المفضلة. إنها تحتاج إلى شركة علاقات عامة".
وبموجب اقتراح ترامب، تفرض الولايات المتحدة تعريفة جمركية لا تقل عن 10% على جميع السلع الواردة إلى الولايات المتحدة من الخارج وتعريفة جمركية بنسبة 60% على المنتجات المستوردة من الصين. وتدفع الرسوم الجمركية للحكومة الفدرالية من قبل الشركة التي تستورد هذه السلع، مثل بائع التجزئة أو المصنع. ويمكن لهذه الشركات إما أن تمرر التكاليف إلى المستهلكين من خلال رفع الأسعار أو أن تتحمل التكاليف وتحصل على ربح أقل.
ويوضح التقرير أنه إذا كانت التعرفات الجمركية السابقة مؤشرا على أي شيء، فمن المرجح أن يرى المستهلكون أسعارا أعلى. إذ لا تقوم الشركات فقط بتمرير الزيادة في كثير من الأحيان، ولكن المنافسين الذين لا يخضعون للتعرفة الجمركية يرفعون الأسعار أيضًا.
وفي هذا السياق، حذرت شركات بما في ذلك AutoZone و Black & Decker المستثمرين بالفعل من أنها سترفع الأسعار إذا نفذ ترامب اقتراحه التعرفي.
وقد أدت التعرفات الجمركية التي فرضها ترامب في عامي 2018 و 2019 إلى ارتفاع أسعار مجموعة من السلع، بما في ذلك الغسالات وحقائب اليد والإطارات، وفقًا لدراسة أجراها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.
وقال ترامب إن فرض رسوم جمركية على السلع القادمة من الصين من شأنه أن يشجع الشركات على نقل مصانعها إلى الولايات المتحدة، مما يخلق فرص العمل ويعزز المبيعات للمنتجين الأميركيين.
لكن دراسات متعددة، بما في ذلك تلك الخاصة بالرسوم الجمركية التي فرضها ترامب في الماضي وجولات الرسوم الجمركية السابقة في ظل إدارات مختلفة، وجدت أن زيادة الرسوم الجمركية لم تؤد إلى انتقال عدد كبير من الشركات إلى الولايات المتحدة ولم تخلق فرص عمل للمنتجين المحليين. بل إن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب في عام 2018 على الصلب والألمنيوم أدت إلى انخفاض في العمالة في قطاع التصنيع بسبب ارتفاع التكاليف بالنسبة للشركات التي تستخدم الصلب والألمنيوم في منتجاتها، وفقًا لدراسة أجراها مجلس الفدرالي.
التضخم
كما وعد ترامب بـ "هزيمة" التضخم، على الرغم من أن معدل زيادة الأسعار عاد بالفعل إلى مستواه التاريخي الذي يتراوح بين 2% و3% على مدى الأشهر العديدة الماضية بعد أن بلغ ذروته في العام 2022. لكن أسعار العديد من الضروريات لا تزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الوباء.
ولخفض تكاليف الإسكان، قال ترامب إنه سيسمح ببناء المنازل على الأراضي المحمية فدرالياً، وهو الأمر الذي قد يساعد في زيادة المعروض من المنازل في أماكن مثل نيفادا وأريزونا. وقال أيضًا إنه سيخفض القيود المفروضة على شركات البناء، على الرغم من أن عديداً من القيود المفروضة على الإسكان يتم تحديدها على مستوى الولايات والمستويات المحلية. وقال إنه سيعزز ملكية المساكن من خلال الحوافز الضريبية، لكن حملته لم تحدد ماهية هذه الحوافز.
كما تعهد ترامب بخفض التكاليف بشكل عام من خلال خفض أسعار الطاقة بنسبة 50٪ خلال عامه الأول في منصبه، وهو أمر قال خبراء الصناعة إنه غير مرجح، وفق "إن بي سي نيوز".
للقيام بذلك، قال ترامب إنه سيسمح لشركات النفط بالحفر في المزيد من الأماكن، مثل الأراضي الفدرالية في ألاسكا، وإزالة الحواجز لتسريع الإنتاج.
ويشير التقرير إلى أن منتجي النفط يضخون بالفعل مستويات قياسية من النفط في الولايات المتحدة، وهم مقيدون بكمية النفط التي يمكنهم حفرها بسبب القيود المفروضة على العمالة والبنية الأساسية. كما أن الشركات محرومة من إغراق السوق بكميات كبيرة من النفط لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض الأسعار، مما قد يؤدي إلى خسارة أموالها المحتملة على كل برميل تضخه.
كما يتم تحديد أسعار النفط من خلال السوق العالمية حيث يمكن لدول أخرى، مثل المملكة العربية السعودية أو روسيا، خفض الإنتاج لرفع الأسعار والحفاظ على الربحية.
سياسة الهجرة
في السياق، قال ترامب إنه سينفذ "أكبر عملية ترحيل في تاريخ البلاد" للمهاجرين غير المسجلين، مدعيا أن ذلك من شأنه أن يساعد الاقتصاد من خلال تحرير السكن وفتح فرص العمل للمواطنين الأميركيين.
لكن جماعات الأعمال حذرت من أن ترحيل ملايين المهاجرين قد يؤدي إلى نقص في العمالة، وهو ما من شأنه في نهاية المطاف أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وخاصة في مجالات مثل إنتاج الغذاء والإسكان حيث يشكل المهاجرون حصة كبيرة من القوى العاملة.
وفي قطاع البناء، الذي يواجه بالفعل نقصًا في مئات الآلاف من العمال، هناك ما يقدر بنحو 1.5 مليون عامل غير موثق يشكلون حوالي 13٪ من إجمالي القوى العاملة، وفقًا للبيانات التي قدمها مركز بيو للأبحاث إلى إن بي سي نيوز.
وعلى مستوى الاقتصاد، وجد تحليل أجراه باحثون في جامعة نيو هامبشاير أن الترحيل الجماعي للمهاجرين قد يقلل من الاقتصاد الأميركي، كما يقاس بالناتج المحلي الإجمالي، بنسبة تصل إلى 6.2%، أو حوالي 1.7 تريليون دولار في الإنتاجية المفقودة.
الضرائب
كما اقترح ترامب عددا من التخفيضات الضريبية، بما في ذلك الإلغاء الكامل لضريبة الدخل الفدرالية. ولكن احتمالات إقرار هذه الخطط متفاوتة، نظرا لأن الكونغرس سوف يضطر إلى تمرير تشريع لتغيير النظام الضريبي. وفي حين أن بعض الخطط تفتقر إلى التفاصيل وهناك عديد من المتغيرات لكيفية إقرار مقترحاته، فإن خبراء الاقتصاد في جامعة بنسلفانيا يقدرون أن خطط ترامب الضريبية والإنفاقية من شأنها أن تزيد العجز بمقدار 4.1 تريليون دولار عند احتساب التأثيرات التي قد تخلفها على الاقتصاد الأوسع.
ومن المرجح أن يصبح تمديد التخفيضات الضريبية التي أقرت خلال إدارة ترامب الأولى، والتي من المقرر أن تنتهي في عام 2025، أحد المقترحات الضريبية الأكثر احتمالا لأن تصبح حقيقة واقعة. فقد خفضت هذه التخفيضات معدل ضريبة الشركات من 35% إلى 21%، وخفضت معدلات ضريبة الدخل الفردي، وزادت الخصم القياسي.
وألمح ترامب إلى أنه سيخفض معدل الضريبة على الشركات أكثر من ذلك، ليصل إلى 15%.
كان أحد التعهدات الأكثر ثباتاً التي قطعها ترامب خلال حملته الانتخابية إلغاء الضرائب على الإكراميات، وهو ما قد يؤثر على نحو 2.5% من العمال الذين يتلقون الإكراميات كجزء من دخلهم. ولكن هذا قد يتسبب في اضطرابات كبرى في كيفية دفع أجور العمال إذا تحولت المزيد من الصناعات إلى نظام الإكراميات حيث يتقاضى العمال الحد الأدنى من الأجور ويتوقع منهم الحصول على الجزء الأكبر من دخلهم معفى من الضرائب من الإكراميات. وحتى الصناعات ذات الياقات البيضاء قد تتبنى نظاماً يصنف فيه جزء من دخل الموظفين على أنه إكراميات.
اقرأ أيضاً: ماذا يعني فوز ترامب في الانتخابات الأميركية لأسواق العملات والأسهم والسندات؟
ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى إحداث فوضى بين العمال والمستهلكين، وتقليص حجم ضرائب الدخل التي تفرضها الحكومة الفدرالية.
وقال ترامب أيضًا إن الدخل الذي يتلقاه كبار السن من الضمان الاجتماعي يجب أن يكون معفيًا من الضرائب. يدفع حوالي 40٪ من المستفيدين من الضمان الاجتماعي ضرائب الدخل الفيدرالية، عادةً لأن لديهم مصادر دخل أخرى ترفعهم فوق عتبة معينة حيث يُطلب منهم دفع ضريبة الدخل، وفقًا لإدارة الضمان الاجتماعي.
ويوضح التقرير أن إلغاء الضريبة على الضمان الاجتماعي يعني خسارة في الإيرادات الضريبية للحكومة الفدرالية، وهو ما من شأنه أن يضيف إلى العجز أو يحتاج إلى تعويضه من خلال التخفيضات.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي